كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}..
وقوله تعالى: {يرونهم مثليهم رأي العين} يحتمل تفسيرين: فإما أن يكون ضمير يرون راجعاً إلى الكفار، وضمير هم راجعاً إلى المسلمين، ويكون المعنى أن الكفار على كثرتهم كانوا يرون المسلمين القليلين {مثليهم}.. وكان هذا من تدبير الله حيث خيل للمشركين أن المسلمين كثرة وهم قلة، فتزلزلت قلوبهم وأقدامهم.
وإما أن يكون العكس، ويكون المعنى أن المسلمين كانوا يرون المشركين {مثليهم} هم- في حين أن المشركين كانوا ثلاثة أمثالهم- ومع هذا ثبتوا وانتصروا.
والمهم هو رجع النصر إلى تأييد الله وتدبيره.. وفي هذا تخذيل للذين كفروا وتهديد. كما أن فيه تثبيتا للذين آمنوا وتهوينا من شأن أعدائهم فلا يرهبونهم.. وكان الموقف- كما ذكرنا في التمهيد للسورة- يقتضي هذا وذاك.. وكان القرآن يعمل هنا وهناك..
وما يزال القرآن يعمل بحقيقته الكبيرة. وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة.. إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله، قائم في كل لحظة.
ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة- ولو قل عددها- قائم كذلك في كل لحظة. وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ، وسنة ماضية لم تتوقف.
وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة؛ وتثق في ذلك الوعد؛ وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة؛ وتصبر حتى يأذن الله؛ ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله، المدبر بحكمته، المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة.
{إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}..
ولا بد من بصر ينظر وبصير تتدبر، لتبرز العبرة، وتعيها القلوب. وإلا فالعبرة تمر في كل لحظة في الليل والنهار!
وفي مجال التربية للجماعة المسلمة يكشف لها عن البواعث الفطرية الخفية التي من عندها يبدأ الانحراف؛ إذا لم تضبط باليقظة الدائمة؛ وإذا لم تتطلع النفس إلى آفاق أعلى؛ وإذا لم تتعلق بما عند الله وهو خير وأزكى.
إن الاستغراق في شهوات الدنيا، ورغائب النفوس، ودوافع الميول الفطرية هو الذي يشغل القلب عن التبصر والاعتبار؛ ويدفع بالناس إلى الغرق في لجة اللذائذ القريبة المحسوسة؛ ويحجب عنهم ما هو أرفع وأعلى؛ ويغلظ الحس فيحرمه متعة التطلع إلى ما وراء اللذة القريبة؛ ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان العظيم في هذه الأرض؛ واللائقة كذلك بمخلوق يستخلفه الله في هذا الملك العريض.
ولما كانت هذه الرغائب والدوافع- مع هذا- طبيعية وفطرية، ومكلفة من قبل البارئ- جل وعلا- أن تؤدي للبشرية دوراً أساسياً في حفظ الحياة وامتدادها، فإن الإسلام لا يشير بكبتها وقتلها، ولكن إلى ضبطها وتنظيمها، وتخفيف حدتها واندفاعها؛ وإلى أن يكون الإنسان مالكاً لها متصرفاً فيها، لا أن تكون مالكة له متصرفة فيه؛ وإلى تقوية روح التسامي فيه والتطلع إلى ما هو أعلى.
ومن ثم يعرض النص القرآني الذي يتولى هذا التوجيه التربوي.. هذه الرغائب والدافع، ويعرض إلى جوارها على امتداد البصر ألواناً من لذائذ الحس والنفس في العالم الآخر، ينالها من يضبطون أنفسهم في هذه الحياة الدنيا عن الاستغراق في لذائذها المحببة، ويحتفظون بإنسانيتهم الرفيعة.
وفي آية واحدة يجمع السياق القرآني أحب شهوات الأرض إلى نفس الإنسان: النساء والبنين والأموال المكدسة والخيل والأرض المخصبة والأنعام.. وهي خلاصة للرغائب الأرضية. إما بذاتها، وإما بما تستطيع أن توفره لأصحابها من لذائذ أخرى.. وفي الآية التالية يعرض لذائذ أخرى في العالم الآخر: جنات تجري من تحتها الأنهار. وأزواج مطهرة. وفوقها رضوان من الله.. وذلك كله لمن يمد ببصره إلى أبعد من لذائذ الأرض، ويصل قلبه بالله على النحو الذي تعرضه آيتان تاليتان:
{زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث.
ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار}..
{زين للناس}. وصياغة الفعل للمجهول هنا تشير إلى أن تركيبهم الفطري قد تضمن هذا الميل؛ فهو محبب ومزين.. وهذا تقرير للواقع من أحد جانبيه. ففي الإنسان هذا الميل إلى هذه {الشهوات}، وهو جزء من تكوينه الأصيل، لا حاجة إلى إنكاره، ولا إلى استنكاره في ذاته. فهو ضروري للحياة البشرية كي تتأصل وتنمو وتطرد- كما أسلفنا- ولكن الواقع يشهد كذلك بأن في فطرة الإنسان جانباً آخر يوازن ذلك الميل، ويحرس الإنسان أن يستغرق في ذلك الجانب وحده؛ وأن يفقد قوة النفخة العلوية أو مدلولها وإيحاءها. هذا الجانب الآخر هو جانب الاستعداد للتسامي، والاستعداد لضبط النفس ووقفها عند الحد السليم من مزاولة هذه {الشهوات}. الحد الباني للنفس وللحياة؛ مع التطلع المستمر إلى ترقية الحياة ورفعها إلى الأفق الذي تهتف إليه النفحة العلوية، وربط القلب البشري بالملإ الأعلى والدار الآخرة ورضوان الله.. هذا الاستعداد الثاني يهذب الاستعداد الأول، وينقيه من الشوائب، ويجعله في الحدود المأمونة التي لا يطغى فيها جانب اللذة الحسية ونزعاتها القريبة، على الروح الإنسانية وأشواقها البعيدة.. والاتجاه إلى الله، وتقواه، هو خيط الصعود والتسامي إلى تلك الأشواق البعيدة.
{زين للناس حب الشهوات}.. فهي شهوات مستحبة مستلذة؛ وليست مستقذرة ولا كريهة. والتعبير لا يدعو إلى استقذارها وكراهيتها؛ إنما يدعو فقط إلى معرفة طبيعتها وبواعثها، ووضعها في مكانها لا تتعداه، ولا تطغى على ما هو أكرم في الحياة وأعلى. والتطلع إلى آفاق أخرى بعد أخذ الضروري من تلك {الشهوات} في غير استغراق ولا إغراق!
وهنا يمتاز الإسلام بمراعاته للفطرة البشرية وقبولها بواقعها، ومحاولة تهذيبها ورفعها، لا كبتها وقمعها.. والذين يتحدثون في هذه الأيام عن الكبت وأضراره، وعن العقد النفسية التي ينشئها الكبت والقمع، يقررون أن السبب الرئيسي للعقد هو الكبت وليس هو الضبط. وهو استقذار دوافع الفطرة واستنكارها من الأساس، مما يوقع الفرد تحت ضغطين متعارضين: ضغط من شعوره- الذي كونه الإيحاء أو كونه الدين أو كونه العرف- بأن دوافع الفطرة دوافع قذرة لا يجوز وجودها أصلاً، فهي خطيئة ودافع شيطاني! وضغط هذه الدوافع التي لا تغلب لأنها عميقة في الفطرة، ولأنها ذات وظيفة أصيلة في كيان الحياة البشرية، لا تتم إلا بها، ولم يخلقها الله في الفطرة عبثاً.
وعندئذ وفي ظل هذا الصراع تتكون العقد النفسية. فحتى إذا سلمنا جدلاً بصحة هذه النظريات النفسية، فإننا نرى الإسلام قد ضمن سلامة الكائن الإنساني من هذا الصراع بين شطري النفس البشرية. بين نوازع الشهوة واللذة، وأشواق الارتفاع والتسامي.. وحقق لهذه وتلك نشاطها المستمر في حدود التوسط والاعتدال.
{زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث...}..
والنساء والبنون شهوة من شهوات النفس الإنسانية قوية.. وقد قرن اليهما {القناطير المقنطرة} من الذهب والفضة.. ونهم المال هو الذي ترسمه {القناطير المقنطرة} ولو كان يريد مجرد الميل إلى المال لقال: والأموال. أو والذهب والفضة. ولكن القناطير المقنطرة تلقي ظلاً خاصاً هو المقصود. ظل النهم الشديد لتكديس الذهب والفضة. ذلك أن التكديس ذاته شهوة. بغض النظر عما يستطيع المال توفيره لصاحبه من الشهوات الأخرى!
ثم قرن إلى النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة.. الخيل المسومة. والخيل كانت- وما تزال حتى في عصر الآلة المادي اليوم- زينة محببة مشتهاة. ففي الخيل جمال وفتوة وانطلاق وقوة. وفيها ذكاء وألفة ومودة. وحتى الذين لا يركبونها فروسية، يعجبهم مشهدها، ما دام في كيانهم حيوية تجيش لمشهد الخيل الفتية!
وقرن إلى تلك الشهوات الأنعامَ والحرث. وهما يقترنان عادة في الذهن وفي الواقع.. الأنعام والحقول المخصبة.. والحرث شهوة بما فيه من مشهد الإنبات والنماء. وإن تفتح الحياة في ذاته لمشهد حبيب فإذا أضيفت إليه شهوة الملك، كان الحرث والأنعام شهوة.
وهذه الشهوات التي ذكرت هنا هي نموذج لشهوات النفوس، يمثل شهوات البيئة التي كانت مخاطبة بهذا القرآن؛ ومنها ما هو شهوة كل نفس على مدار الزمان. والقرآن يعرضها ثم يقرر قيمتها الحقيقية، لتبقى في مكانها هذا لا تتعداه، ولا تطغى على ما سواه:
{ذلك متاع الحياة الدنيا}..
ذلك كله الذي عرضه من اللذائذ المحببة- وسائر ما يماثله من اللذائذ والشهوات- متاع الحياة الدنيا. لا الحياة الرفيعة، ولا الآفاق البعيدة.. متاع هذه الأرض القريب.. فأما من أراد الذي هو خير.. خير من ذلك كله. خير لأنه أرفع في ذاته. وخير لأنه يرفع النفس ويصونها من الاستغراق في الشهوات، والانكباب على الأرض دون التطلع إلى السماء.. من أراد الذي هو خير فعند الله من المتاع ما هو خير. وفيه عوض كذلك عن تلك الشهوات:
{قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد}..
وهذا المتاع الأخروي الذي تذكره الآية هنا، ويؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبشر به المتقين، هو نعيم حسي في عمومه.
ولكن هنالك فارقاً أساسياً بينه وبين متاع الدنيا.. إنه متاع لا يناله إلا الذين اتقوا. الذين كان خوف الله وذكره في قلوبهم. وشعور التقوى شعور مهذب للروح والحس جميعاً. شعور ضابط للنفس أن تستغرقها الشهوات، وأن تنساق فيها كالبهيمة. فالذين اتقوا ربهم حين يتطلعون إلى هذا المتاع الحسي الذي يبشرون به يتطلعون إليه في شفافية مبرأة من غلظة الحس! وفي حساسية مبرأة من بهيمية الشهوة! ويرتفعون بالتطلع إليه- وهم في هذه الأرض- قبل أن ينتهي بهم المطاف إلى قرب الله..
وفي هذا المتاع النظيف العفيف عوض كامل عن متاع الدنيا.. وفيه زيادة..
فإذا كان متاعهم في الدنيا حرثاً مُعطياً مخصباً، ففي الآخرة جنات كاملة تجري من تحتها الأنهار. وهي فوق هذا خالدة وهم خالدون فيها، لا كالحرث المحدود الميقات!
وإذا كان متاعهم في الدنيا نساء وبنين، ففي الآخرة أزواج مطهرة. وفي طهارتها فضل وارتفاع على شهوات الأرض في الحياة!
فأما الخيل المسومة والأنعام. وأما القناطير المقنطرة من الذهب والفضة. فقد كانت في الدنيا وسائل لتحقيق متاع. فأما في نعيم الآخرة فلا حاجة إلى الوسائل لبلوغ الغايات!
ثم.. هنالك ما هو أكبر من كل متاع.. هنالك {رضوان من الله}. رضوان يعدل الحياة الدنيا والحياة الأخرى كليهما.. ويرجح.. رضوان. بكل ما في لفظه من نداوة. وبكل ما في ظله من حنان.
{والله بصير بالعباد}..
بصير بحقيقة فطرتهم وما ركب فيها من ميول ونوازع. بصير بما يصلح لهذه الفطرة من توجيهات وإيحاءات. بصير بتصريفها في الحياة وما بعد الحياة.
ثم وصف لهؤلاء العباد، يصور حال المتقين مع ربهم، الحال التي استحقوا عليها هذا الرضوان:
{الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار}..
وفي دعائهم ما ينم عن تقواهم. فهو إعلان للإيمان، وشفاعة به عند الله، وطلب للغفران، وتوقٍ من النيران.
وفي كل صفة من صفاتهم تتحقق سمة ذات قيمة في حياة الإنسانية وفي حياة الجماعة المسلمة:
في الصبر ترفع على الألم واستعلاء على الشكوى، وثبات على تكاليف الدعوة، وأداء لتكاليف الحق، وتسليم لله واستسلام لما يريد بهم من الأمر، وقبول لحكمه ورضاء..
وفي الصدق اعتزاز بالحق الذي هو قوام الوجود، وترفع عن الضعف؛ فما الكذب إلا ضعف عن كلمة الحق، اتقاء لضرر أو اجتلابا لمنفعة.
وفي القنوت لله أداء لحق الألوهية وواجب العبودية؛ وتحقيق لكرامة النفس بالقنوت لله الواحد الذي لا قنوت لسواه.
وفي الإنفاق تحرر من استذلال المال؛ وانفلات من ربقة الشح؛ وإعلاء لحقيقة الأخوة الإنسانية على شهوة اللذة الشخصية؛ وتكافل بين الناس يليق بعالم يسكنه الناس!
والاستغفار بالأسحار بعد هذا كله يلقي ظلالاً رفافة ندية عميقة.
ولفظة الأسحار بذاتها ترسم ظلال هذه الفترة من الليل قبيل الفجر. الفترة التي يصفو فيها الجو ويرق ويسكن؛ وتترقرق فيها خواطر النفس وخوالجها الحبيسة! فإذا انضمت إليها صورة الاستغفار ألقت تلك الظلال المنسابة في عالم النفس وفي ضمير الوجود سواء. وتلاقت روح الإنسان وروح الكون في الاتجاه لبارئ الكون وبارئ الإنسان.
هؤلاء الصابرون، الصادقون، القانتون، المنفقون، المستغفرون بالأسحار.. لهم {رضوان من الله}.. وهم أهل لهذا الرضوان: ظله الندي ومعناه الحاني. وهو خير من كل شهوة وخير من كل متاع..
وهكذا يبدأ القرآن بالنفس البشرية من موضعها على الأرض.. وشيئاً فشيئاً يرف بها في آفاق وأضواء، حتى ينتهي بها إلى الملإ الأعلى في يسر وهينة، وفي رفق ورحمة. وفي اعتبار لكامل فطرتها وكامل نوازعها. وفي مراعاة لضعفها وعجزها، وفي استجاشة لطاقاتها وأشواقها، ودون ما كبت ولا إكراه. ودون ما وقف لجريان الحياة.. فطرة الله. ومنهج الله لهذه الفطرة.. {والله بصير بالعباد}..
وإلى هنا كان سياق السورة يستهدف تقرير حقيقة التوحيد: توحيد الألوهية والقوامة، وتوحيد الكتاب والرسالة.. ويصور موقف المؤمنين حقاً والمنحرفين الذين في قلوبهم زيغ، من آيات الله وكتابه.. ويهدد المنحرفين بمصير كمصير الذين كفروا في الماضي وفي الحاضر.. ثم يكشف عن الدوافع الفطرية التي تلهي عن الاعتبار؛ ويصور حال المتقين مع ربهم والتجاءهم إلى الله..